خلق الكون

الانفجار الكبير

 

دائمًا ما يتساءل الناس في كل العصور عن كيفية نشأة هذا الكون الخالي من العيوب؟ وإلام سيؤدي؟ وكيف تحافظ قوانينه على النظام والتوازن فيه؟ ولعدة قرون، ألف العلماء والمفكرون عددًا هائلًا من الأبحاث عن هذا الموضوع وأنتجوا عددًا قليلًا من النظريات.

كان الاعتقاد السائد خلال القرن التاسع عشر - والذي تم دحضه علميًا فيما بعد - أن الكون عبارة عن مجموعة من المواد لا نهائية الحجم، والتي تواجدت منذ الأزل وسيستمر تواجدها للأبد.

ممهدة الأرضية للفلسفة المادية، أنكرت هذه الرؤية غير العلمية وجود الخالق بينما أقرت بعدم وجود بداية أو نهاية للكون.

المادية هي منظومة فكرية تناقض العلم، فالمادة هي الشيء الوحيد الحقيقي وتُنكر وجود أي شيء عدا المادة. للمادية جذور في حضارة اليونان القديمة ولكنها حازت على قبول متزايد في القرن التاسع عشر، واشتهر هذا النظام الفكري المزيف في شكل الفلسفة المادية الجدلية لكارل ماركس.

يعتبر الماديون نموذج الكون اللا نهائي هو الدعامة الأساسية الأهم في فلسفاتهم الإلحادية. على سبيل المثال، في كتابه أسس الفلسفة، يدعي الفيلسوف المادي جورج بوليتزر - بطريقة غاية في الجهل - أن "الكون ليس شيئًا مخلوقًا"، ثم أعطى تلميحات عن الكيفية التي من الممكن بها هزم المادية من خلال البيانات العلمية في المستقبل، وذلك حين قال "إذا كان قد تم خلقه، فلا بد من أنه خُلق بواسطة الإله على الفور ومن العدم".

عندما زعم بوليتزر أن الكون لم يُخلق من العدم، كان يستند على نموذج الكون السائد في القرن التاسع عشر، ويعتقد أنه يقدم ادعاءً علميًا.

على أي حال، فالعلوم والتكنولوجيا التي تم التوصل لها في القرن العشرين أنهت في نهاية المطاف الفكرة البدائية المدعوة بالمادية، فقد تبين أن الكون غير ثابت كما يفترض الماديون، بل وعلى النقيض من ذلك، فالكون آخذ في التوسع. وإلى جانب ذلك، فقد ثبت من خلال العديد من الملاحظات والحسابات أن الكون كان له نقطة بداية محددة والتي أُنشئ فيها من لا شيء بواسطة انفجار كبير، مع ذلك وعلى الرغم من كل البيانات العلمية، فقد رفضت الأوساط المادية قبول حقيقة أن الكون قد تم خلقه من لا شيء. هناك مقولة للفيزيائي المادي الشهير آرثر إدينجتون يوضح الحالة النفسية للماديين، حيث يقول: "فلسفيًا: فكرة البداية المفاجئة للنظام الحالي للطبيعة بغيضة بالنسبة لي". ذلك بالرغم من أن معايير العلماء أثناء تقييم أية بيانات يجب أن تكون دقة البيانات، وليست الأيديولوجية الخاصة بهم، وبالرغم من ذلك فقد عاش إدينجتون أوقاتًا صعبة للاعتراف بهذه الحقيقة، فقد أثبت العلم أن الكون جاء إلى حيز الوجود فجأة، أي تم خلقه.

لم تقتصر ردود فعل الماديين على ذلك فقط، عندما سُئل الفيزيائي الألماني فالتر نيرنست عن رأيه في نظرية الانفجار الكبير، أعطى أجوبة غير منطقية عن تأثير قبول هذه الاكتشافات، حيث قال "سيكون خيانة لأُسس العلم". وقال أستاذ الفيزياء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (أم أي تي) فيليب موريسون في فيلم وثائقي بريطاني: "أجد صعوبة في قبول نظرية الانفجار الكبير، وأرغب في رفضها"، لكن الكثير من العلماء بسبب النزاهة وأخلاقيات العلم، ذكروا أن نظرية الانفجار الكبير صائبة لدرجة لا يمكن معها دحضها لمجرد أسباب أيديولوجية.

ووَرَدَ في مقال بعنوان "الانفجار الديني الكبير" للكاتب جيم هولت في مجلة نيويوركر أن: "على الأرجح فالانفجار الكبير هو الفكرة الوحيدة في تاريخ العلم التي تمت مقاومتها فقط لدعمها لنظرية خلق الكون من قِبل الإله"، كما ينتقد عالم الفيزياء الفلكية البارز روبرت جاسترو في كتابه "الله وعلماء الفلك" العلماء الماديين لترددهم في قبول نظرية الانفجار الكبير بسبب الهواجس العقائدية:

"خلف ردود الأفعال هذه هناك قدْر غريب من العواطف والمشاعر، فقد تم انتهاك العقيدة الدينية للعلماء بسبب اكتشاف أن العالم كانت له بداية حيث لم تكن قوانين الفيزياء المعروفة صالحة للتطبيق، ونتيجة لقوى وظروف لا يمكننا معرفتها. وعندما حدث ذلك، فقد العالم السيطرة. فلو فحص النتائج حقًا، ستصيبه صدمة، وكالعادة عندما تصيب الصدمة إنسانًا ما، فتجد عقله يتجاهل الأسباب المؤدية لذلك. فانظر لفداحة مشكلة العلماء. أثبت العلم أن الكون انفجر للوجود في لحظة محددة، من أو ماذا الذي وضع المادة والطاقة المُوجدة للكون؟ هل أُنشئ الكون من العدم؟ هذا تطور غريب وغير متوقع للجميع عدا علماء الدين".

روبرت جاسترو، كتاب "الله وعلماء الفلك".

إذًا، كيف حدثت هذه العملية التي يصفها الماديون بأنها "غريبة" و"غير متوقعة"؟ الآن دعونا نُلقي نظرة على تاريخ الاكتشافات العلمية والتي تُرينا كيف تم خلق الكون.

 

الطريق إلى اكتشاف الانفجار الكبير

 

اعترف المجتمع العلمي بأن الكون كله قد جاء إلى الوجود في لحظة واحدة نتيجة لحدوث انفجار، أو بكلمات أُخرى تم خلق الكون، وقد تم اكتشاف هذه الحقيقة المهمة نتيجة للعديد من الملاحظات والاستنتاجات الثورية.

 

في المرصد الفلكي في جبل ويلسون في كاليفورنيا عام 1929، اكتشف فلكي أمريكي يُدعى إدوين هابل واحدة من أعظم الاكتشافات في تاريخ علم الفلك، فبينما كان يراقب النجوم من خلال تلسكوب عملاق، اكتشف أن شدة الضوء الأحمر المنبعث منها تعتمد على مدى بُعدهم، وهذا يعني أن النجوم كانت "تبتعد" عنّا. ووفقًا للقواعد الفيزيائية المتعارف عليها، فطيف أشعة الضوء للجسم المسافر باتجاه نقطة المراقبة يميل للون البنفسجي، في حين أن طيف أشعة الضوء للجسم الذي يتحرك مُبتعدًا عن نقطة الرصد تميل نحو اللون الأحمر. والضوء المنبعث من النجوم الذي لاحظه هابل أثناء مراقبته كان يميل للون الأحمر، وهذا يعني أن النجوم كانت تتحرك باستمرار مُبتعدة عنّا.

قبل فترة طويلة، قدم هابل اكتشافًا آخر مهمًا جدًا: فلم تبتعد النجوم والمجرات عنا فقط، بل وعن بعضها البعض أيضًا، والاستنتاج الوحيد الذي يمكن أن نستنتجه من كون يبتعد فيه كل شيء عن بعضه البعض، هو أن الكون "يتمدد" باستمرار.

من أجل فهم أفضل، يمكننا النظر للكون كسطح بالون يتم تفجيره، فكما أن كل النقاط على سطح بالون تتحرك بعيدًا عن بعضها البعض، فالبالون ينتفخ، وهكذا يحدث مع مختلف الأجرام في الفضاء، فهي تتحرك بعيدًا عن بعضها البعض في حين يأخذ الكون في الاتساع.

في الواقع، لقد تم اكتشاف هذا الأمر بشكل نظري في وقت سابق. ألبرت أينشتاين - والذي يعتبر أعظم علماء القرن العشرين - خَلُص بعد حساباته في الفيزياء النظرية إلى أن الكون لا يمكن أن يكون ساكنًا. ورغم ذلك، فقد ترك اكتشافه ولم يسع لنشره، وهذا ببساطة حتى لا يتصادم مع نموذج الكون الثابت المعترف به على نطاق واسع في وقته. فيما بعد، قال أينشتاين عن هذا الفعل إنه: "أكبر غلطة في حياتي المهنية".

ما الذي يعنيه تمدد الكون؟

تمدد الكون يعني ضمنيًا أنه إذا استطعنا السفر إلى الوراء في الزمن، فسنستطيع أن نرى أن الكون قد نشأ من نقطة واحدة، وأظهرت الحسابات أن هذه "النقطة الواحدة" التي تحوي كل مادة الكون يجب أن تكون "صفرية الحجم" و"لا نهائية الكثافة"، وقد نتج الكون من جراء انفجار هذه النقطة الوحيدة صفرية الحجم.

سُمي هذا الانفجار الضخم الذي حدد بداية الكون بـ "الانفجار الكبير" (بيج بانج)، وسُميت النظرية بهذا الاسم تبعًا لذلك.

لا بد من ذكر أن "الحجم الصفري" هو مجرد تعبير نظري يُستخدم لأغراض وصفية فقط. لا يُمكن للعلم وصف مفهوم "العدم"، الذي هو أبعد من حدود الفهم البشري، إلا من خلال التعبير عنه بأنه "نقطة صفرية الحجم". في الحقيقة، "نقطة بلا حجم" تعني "العدم".

وهكذا جاء الكون إلى الوجود من العدم. وبعبارة أخرى، قد خُلق. هذه الحقيقة والتي تم اكتشافها بواسطة الفيزياء الحديثة في القرن العشرين، قد ذُكرت في القرآن قبل 14 قرنًا:

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

"بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" سورة الأنعام – آية 101.

أظهرت نظرية الانفجار الكبير أن في بداية الكون كانت كل الأشياء قطعة واحدة ثم افترقت بعد ذلك. وقد ذُكرت هذه الحقيقة، والتي كشفت عنها نظرية الانفجار الكبير - مرة أخرى - في القرآن قبل 14 قرنًا، عندما كان لدى الناس معرفة محدودة جدًا عن الكون.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

"أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا" سورة الأنبياء – آية 30.

وهذا يعني أن كل المادة الموجودة في الكون قد تم إنشاؤها بواسطة انفجار كبير لنقطة واحدة، وتشكل الكون الحالي بواسطة افتراق أجزائها عن بعضها البعض.

تمدد الكون هو أحد أهم الدلائل على أن الكون قد تم خلقه من العدم، وعلى الرغم من عدم اكتشاف هذه الحقيقة من قِبل العلم حتى القرن العشرين، وقد أخبرنا الله بهذه الحقيقة في القرآن الذي أُنزل قبل 1400 سنة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

 

"وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ" سورة الذاريات – آية 47.

كان الانفجار الكبير مؤشرًا واضحًا على أن الكون "خُلق من العدم". وبعبارة أخرى، فقد خلقه الله، ولذا واصل علماء الفلك متبعو الفلسفة المادية مقاومة نظرية الانفجار الكبير ودعموا فكرة الكون اللا متناهي. وتم الكشف عن سبب هذا الجهد على لسان آرثر إدنجتون، أحد أهم علماء الفيزياء الماديين والذي قال "فلسفيًا: فكرة البداية المفاجئة للنظام الحالي للطبيعة بغيضة بالنسبة لي".

 

انهيار نظرية "الحالة المستقرة"

 

عالم الفلك الإنجليزي السير فريد هويل وهو مادي أيضًا، وكان أحد أوائل من انزعجوا من نظرية الانفجار الكبير. في منتصف القرن، دافع هويل عن نظرية تُدعى الحالة المستقرة والتي كانت مشابهة لنظرية "الكون الثابت" في القرن التاسع عشر. ونصت نظرية الحالة المستقرة على أن الكون لا نهائي وأبدي العمر، وهذه نتيجة النظرة الضيقة التي تهدف فقط لدعم الفلسفة المادية، وكانت هذه النظرية مضادة كليًا لنظرية "الانفجار الكبير" التي أصلت لفكرة وجود بداية للكون.

لكن العلم في النهاية كان ضد هؤلاء الذين دافعوا عن نظرية الحالة المستقرة ضد نظرية الانفجار الكبير لفترة طويلة.

في عام 1948، جاء جورج جامو مع فكرة أخرى بخصوص الانفجار الكبير. فقد ذكر أنه بعد تشكيل الكون بسبب الانفجار الكبير، يجب أن يكون هناك فيض من الإشعاع الذي خلفه هذا الانفجار. وعلاوة على ذلك، يجب أن يكون هذا الإشعاع منتشرًا بشكل متجانس في جميع أنحاء الكون.

تم اكتشاف هذه الموجات - والتي تعتبر دليلًا يجب أن يتحقق ليبرهن على صحة النظرية - عام 1965، بواسطة باحثين يدعيان أرنو بنزياث وروبرت ويلسون عن طريق الصدفة. تُدعى هذه الموجات باسم "إشعاع الخلفية الكونية"، ولا يبدو أنها تشع من مصدر مُحدد بل تتخلل كل شيء، وبناءً على هذا فقد عرفنا أن هذا الإشعاع تخلف نتيجة المراحل الأولى من الانفجار الكبير. تم منح بنزايث وويلسون جائزة نوبل على هذا الاكتشاف.

أرسلت ناسا عام 1989 القمر الصناعي مستكشف الخلفية الكونية (كوبي) إلى الفضاء، لإجراء البحوث على إشعاع الخلفية الكونية.

استغرق الأمر ثمان دقائق فقط لكي يؤكد كوبي حسابات بنزياث وويلسون حيث، عثر كوبي على بقايا من الانفجار الكبير الذي حدث في بداية الكون.

برهن هذا الاكتشاف بشكل واضح على صحة نظرية الانفجار الكبير، ولذا فهو يُعد أحد أعظم الاكتشافات الفلكية على مر العصور.

وإحدى أهم الدلائل الأخرى على صحة نظرية الانفجار الكبير هي كمية الهيدروجين والهليوم في الفضاء. من المعروف من الأبحاث العلمية أن تركيز الهيدروجين والهليوم في الكون جاء مطابقًا للنسب المحسوبة للتركيز المتبقي من الانفجار الكبير، لكن إذا كان الكون ليس له بداية وموجودًا منذ الأزل، لكان يجب أن يكون كل الهيدروجين الموجود قد استُهلِك بالفعل وتحول إلى غاز الهليوم.

 

كل هذه الأدلة المُقنعة تسببت في تبني المجتمع العلمي لنظرية الانفجار الكبير، فقد كان نموذج الانفجار الكبير هو أحدث ما توصل إليه العلم بخصوص نشأة الكون.

 

برغم دفاع دينيس سكيما لسنوات طوال عن نظرية الحالة المستقرة بجانب فريد هويل، إلا أنه في النهاية وصف الحالة التي وصلوا إليها بعد اكتشاف كل تلك الأدلة التي تؤيد نظرية الانفجار الكبير، فقد أقر أنه دافع عن نظرية الحالة الثابتة ليس لاعتقاده بصحتها، ولكن لأنه تمنى أن تكون صحيحة، واستمر سكيما قائلًا إنه بعد أن بدأت الأدلة في التراكم، كان عليه أن يعترف أن اللعبة قد انتهت، وأن نظرية الحالة المستقرة كان لا بد من رفضها.

كما أضطر جورج أبيل البروفيسور في جامعة كاليفورنيا أن يقبل النصر النهائي لنظرية الانفجار الكبير، وذكر أن الأدلة المتوفرة حاليًا تدل على أن الكون قد نشأ منذ مليارات السنين بواسطة الانفجار الكبير، ويعترف بأنه ليس لديه أي خيار سوى قبول نظرية الانفجار الكبير.

مع انتصار نظرية الانفجار الكبير، تم إلقاء أسطورة "المادة الأبدية" التي تُشكل أساس الفلسفة المادية في سلة مهملات التاريخ. إذًا، فما الذي كان موجودًا قبل الانفجار الكبير، وما هي القوة التي جلبت الكون إلى "الوجود" بواسطة هذا الانفجار الكبير بعدما كان "عدمًا"؟

 

الانفجار الكبير والخلق

 

الجواب على هذا السؤال يعني بكل تأكيد وجود الخالق. وقد علق الفيلسوف أنطوني فلو - الملحد لوقت طويل جدًا والذي أعلن في وقت لاحق أنه يعتقد بوجود الله - على الموضوع قائلًا:

 

من المعروف أن الاعتراف مفيد للروح، لذا سأبدأ بالاعتراف أن على الملحد الستراتوني – نوع من الإلحاد يقول بعدم حاجة الملحد للبحث عن أدلة على عدم وجود إله ويلقي بهذا الدور على المؤمنين – الخجل بسبب إجماع علماء الكونيات المعاصرين، لأنه على ما يبدو فعلماء الكونيات يقدمون لنا براهين علمية على وجود بداية للكون.

وقد اعترف العديد من العلماء الذين لا يعتنقون الإلحاد بشكل أعمى بدور الخالق سبحانه وتعالى في خلق الكون. يجب أن يكون هذا الخالق هو الذي خلق كلًا من المادة والوقت، وفي نفس الوقت يجب أن يكون مستقلًا عن الاثنين. قال عالم الفيزياء الفلكية المعروف هيو روس:

 

"إذا كانت بداية الزمن متزامنة مع بداية الكون، كما تقول نظرية الفضاء، إذًا فسبب وجود الكون يجب أن يكون كيانًا يعمل بشكل مستقل تمامًا عن البعد الزمني، بل وموجود بشكل يسبق البعد الزمني للكون. هذا الاستنتاج يخبرنا أن الإله ليس هو الكون نفسه، ولا يحتوي الكون الإله أيضًا".

نعم، تم إنشاء المادة والزمن بواسطة الخالق عز وجل، وهو مستقل تمامًا عن كل هذه المفاهيم. هذا الخالق هو الله، وهو رب السماوات والأرض.

في الحقيقة، تسبب الانفجار الكبير في متاعب أكبر بكثير للماديين من مجرد اعترافات أنتوني فلو المذكورة بالأعلى، فلم يأت الكون للوجود بواسطة الانفجار الكبير من العدم فقط، ولكنه أيضًا تم إيجاده بطريقة مُحكمة ومُمنهجة جدًا.

حدث الانفجار الكبير مع انفجار النقطة التي تحتوي كل المادة والطاقة في الكون، وتشتت كل هذا في كل الاتجاهات في الفضاء بسرعة رهيبة، ومن هذه المادة والطاقة جاء عدد ضخم ومتوازن من المجرات والنجوم والشمس والأرض وجميع الأجرام السماوية الأخرى. وعلاوة على ذلك، تشكلت القواعد الحاكمة والتي سُميت بـ "قوانين الفيزياء"، وهي قواعد موحدة في جميع أنحاء الكون كله ولا تتغير. لم تتغير قوانين الفيزياء التي ظهرت مع حدوث الانفجار الكبير على الإطلاق على مدى 15 مليار عام. وعلاوة على ذلك، فإن هذه القوانين تنتج حسابات دقيقة للغاية، حتى أن الاختلاف في مجرد ملليمتر واحد من قيمها الحالية من الممكن أن يؤدي إلى تدمير هيكل وشكل الكون كله.

 

كل هذه الأمور تُشير إلى نشأة أمر مثالي بعد الانفجار الكبير.

هذا رغم أن الانفجارات في العادة لا تُنتج أمورًا مُنظمة، وكل الانفجارات التي نعرفها تميل إلى إحداث أضرار، وتحطيم، وتدمير ما حولها. فإذا علمنا بوجود نظام دقيق جدًا حدث بعد انفجار، فإننا سنستنتج أن هناك "أمرًا خارقًا للعادة" تدخل في هذا الانفجار، وأن جميع القطع المتناثرة جراء هذا الانفجار قد تم السيطرة عليها بطريقة مُحكمة للغاية.

 

السير فريد هويل - والذي اضطُر في النهاية إلى قبول نظرية الانفجار الكبير بعد سنوات عديدة من معارضتها - عبر عن هذا الموقف بشكل جيد للغاية:

نظرية الانفجار الكبير تذهب إلى أن الكون قد بدأ بانفجار واحد، ولكن كما يمكننا أن نرى، فإن أي انفجار سيجعل المواد تتناثر في كل مكان، في حين أن الانفجار الكبير قد أوجد - بصورة غامضة - ظروفًا معاكسة لذلك، حيث تكتلت المادة معًا في شكل المجرات.

مما لا شك فيه، أنه إذا نشأ نظام مُحكم للغاية بواسطة انفجار، فعلى الجميع أن يعترف بأن كل لحظة تمر تُنبئ عن وجود إبداع من عقل أسمى، وبعبارة أخرى فهذا هو عمل الله.

 

أمر آخر في هذا النظام الرائع الموجود في الكون بعد الانفجار الكبير، هو خلق "كون قابل للمعيشة". الظروف الملائمة المطلوبة لخلق كوكب صالح للسكن كثيرة جدًا، ومعقدة لدرجة أنه من المستحيل أن نعتقد أن هذا التشكيل من قبيل الصدفة.

وذكر بول ديفيز - وهو أستاذ مشهور للفيزياء النظرية - في نهاية الحسابات التي قام بها لحساب معدل توسع الكون، أن هذا المعدل دقيق بشكل لا يُصدق. فقال:

 

"معدل تمدد الكون يخضع لقياسات دقيقة للغاية، فهي ذات قيمة حرجة والتي بسببها حافظ الكون على جاذبيته الخاصة مما جعله يتمدد للأبد، لكن إذا ما كان الكون أبطأ قليلًا لانهار، وإذا زادت سرعته لتبددت المادة الكونية تمامًا منذ زمن طويل، فلم يكن الانفجار الكبير مجرد انفجار قديم عادي، لكنه كان انفجارًا مُرتبًا ذا قيمة مُحددة بدقة".

عالم الفيزياء الشهير البروفيسور ستيفن هوكينج يقول في كتابه تاريخ موجز للزمن، أن الكون مُحكم بحسابات وموازين مضبوطة بدقة أكثر مما يمكننا أن نتصور، ويُشير هوكينج لمعدل تمدد الكون ويقول:

"إذا كان معدل التمدد بعد ثانية واحدة من الانفجار الكبير أصغر بجزء واحد من مائة ألف مليون مليون جزء، لكان الكون قد انهار على نفسه قبل أن يصل لحجمه الحالي".

 

كما يوضح بول ديفيز التوابع الحتمية الناتجة من هذه الموازين والحسابات الدقيقة:

 

ومن الصعب مقاومة الانطباع بأن الهيكل الحالي للكون، بما فيه من حساسية لأية تغيرات طفيفة في الأرقام، كان وراءه من يقوم على العناية به. بالإضافة للتوافق الذي يبدو خارقًا في القيم العددية الموجودة في الطبيعة كثوابت أساسية، والذي يجب أن يُمثل أقوى أدلة دامغة على تواجد عنصر التصميم الكوني.

وعن نفس الحقيقة، كتب عالم الفلك الأمريكي جورج جرينشتاين في كتابه "الكون التكافلي":

بينما نقوم بحصر جميع الأدلة، فالفكرة التي تطرح نفسها بإلحاح هي أن بعض القوى الخارقة قد شاركت في هذا.

 

 

العلم يواصل تأييد الانفجار الكبير

 

تأكيدات أخرى من العلماء حول نظرية الانفجار الكبير أتت من دراسات أخرى لاحقة في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، حيث كانت أول البيانات المستلمة من بالون مراقبة يُدعى بومرانج عام 2000. كان قد تم إطلاق هذا البالون عام 1998 وسافر 120,000 قدم فوق القارة القطبية الجنوبية أنتاركتيكا، وسجل بيانات مُلفتة حول إشعاع الخلفية الكونية، وهو أحد أهم الأسس لنظرية الانفجار الكبير. ويقول مايكل تيرنر وهو واحد من العلماء من جامعة شيكاغو الذين حللوا هذه البيانات:

لقد عبرت كل من نظرية الانفجار الكبير والنظرية النسبية العامة لأينشتاين اختبارًا رئيسيًا جديدًا.

كما أرسل المسبار "وماب" (مسبار التحقق من تباين خواص الإشعاع ويلكنسون)، والذي أُطلق إلى الفضاء في عام 2001، البيانات للأرض عام 2003، وكشف عن تفاصيل هامة مطابقة للبيانات التي تم الحصول عليها من البالون بومرانج. بعض المعلومات التي أكدها المسبار تُعتبر أحد أهم الإنجازات في العقد الأول من الألفية الثانية، وهي كما يلي:

- عمر الكون يبلغ 13.73 مليار سنة، هامش الخطأ هنا حوالي 1٪، وكان يُقدر عمر الكون قبل ذلك بفترة تتراوح بين 15 و20 مليار سنة.

-  بدأت أولى النجوم بالسطوع بعد ما يقارب 400 مليون سنة من الانفجار الكبير، وقد أدهش هذا التاريخ المبكر العلماء.

-  يتكون الكون من 4.6٪ ذرات عادية، و23.3% من المادة المظلمة، و72.1٪ من الطاقة المظلمة. وهذه القياسات الجديدة ستمكننا من الحصول على بيانات هامة عن طبيعة الطاقة المظلمة، والتي تُمزق المجرات.

أنتجت مجموعتان دراسيتان منفصلتان تتكونا من علماء بريطانيين وأستراليين وأمريكيين خريطة ثلاثية الأبعاد لما يقارب 266,000 مجرة بعد عدة سنوات من البحث. قام العلماء بمقارنة البيانات التي تم جمعها حول توزيع المجرات مع البيانات حول إشعاع الخلفية الكونية المنبث في جميع أنحاء الكون، وحصلوا على العديد من النتائج الهامة عن أصل المجرات. وخلص الباحثون بتحليل الدراسات إلى أن المجرات تكونت نتيجة تجمع المواد مع بعضها البعض بعد حوالي 350,000 سنة من الانفجار الكبير، واتخذت هذه الأشكال نتيجة لقوة الجاذبية، وقدمت نتائج هذه الدراسات أدلة جديدة على صحة نظرية الانفجار الكبير.

 

عززت النتائج التي تم الحصول عليها من هذه الدراسات نظرية الانفجار الكبير. وأكد الدكتور رسل كانون هذا التأييد في عبارته التالية:

لقد عرفنا منذ وقت طويل أن أفضل نظرية عن - نشأة - الكون هي الانفجار الكبير، حيث بدأ كل شيء بانفجار هائل في مساحة صغيرة، وتمدد الكون منذ ذلك الحين. ما يمكننا أن نكون متأكدين منه الآن أكثر من أي وقت مضى هو أن تلك هي الفكرة الأساسية الصحيحة، حيث تجتمع كل أجزائها معًا بشكل جيد للغاية.

باختصار، فعندما ندرس النظام البديع للكون، نرى أن وجود الكون وعمله يقوم على توازن دقيق للغاية، ونظام معقد جدًا بحيث لا يمكن تبرير حدوثه بالصدفة. وكما هو واضح، فليس من الممكن بأية طريقة أن يتكون هذا التوازن والنظام الدقيقين من تلقاء نفسيهما بالصدفة بعد انفجار ضخم كهذا. فتشكيل مثل هذا النظام في أعقاب انفجار مثل الانفجار الكبير هو دليل واضح على خلق خارق للطبيعة.

 

هذه الخطة التي لا تضاهى والنظام الموجود في الكون بالتأكيد يُثبت وجود خالق ذي معرفة لا نهائية، وقوة، وحكمة، والذي خلق كل شيء من العدم، والذي يتحكم ويُدير ذلك باستمرار، هذا الخالق هو الله رب العالمين.



DEVAMINI GÖSTER